الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.أسرار الفاتحة: .مبحث للفخر الرازي في الأسرار العقلية المستنبطة من سورة الفاتحة: وفيه مسائل:.المسألة الأولى: أسرار الفاتحة: اعلم أنه تعالى لما قال: {الحمد للَّهِ} فكأن سائلًا يقول: {الحمد لله} منبي عن أمرين: أحدهما: وجود الإله، والثاني: كونه مستحقًا للحمد، فما الدليل على وجود الإله وما الدليل على أنه مستحق الحمد؟ ولما توجه هذان السؤالان لا جرم ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذين السؤالين، فأجاب عن السؤال الأول بقوله: {رَبّ العالمين} وأجاب عن السؤال الثاني بقوله: {الرحمن الرحيم مالك يَوْمِ الدين}.أما تقرير الجواب الأول ففيه مسائل:.المسألة الأولى: علمنا بوجود الشيء إما أن يكون ضروريًّا أو نظريًّا: إن علمنا بوجود الشيء إما أن يكون ضروريًا أو نظريًا، لا جائز أن يقال العلم بوجود الإله ضروري، لأنا نعلم بالضرورة أنا لا نعرف وجود الإله بالضرورة فبقي أن يكون العلم نظريًا، والعلم النظري لا يمكن تحصيله إلا بالدليل، ولا دليل على وجود الإله إلا أن هذا العالم المحسوس بما فيه من السموات والأرضين والجبال والبحار والمعادن والنبات والحيوان محتاج إلى مدبر يدبره وموجود يوجده ومرب يربيه ومبق يبقيه، فكان قوله: {رَبّ العالمين} إشارة إلى الدليل الدال على وجود الإله القادر الحكيم.ثم فيه لطائف:.اللطيفة الأولى: {العالمين} إشارة إلى كل ما سوى الله: أن العالمين إشارة إلى كل ما سوى الله فقوله: {رَبّ العالمين} إشارة إلى أن كل ما سواه فهو مفتقر إليه محتاج في وجوده إلى إيجاده، وفي بقائه إلى إبقائه، فكان هذا إشارة إلى أن كل جزء لا يتجزأ وكل جوهر فرد وكل واحد من آحاد الأعراض فهو برهان باهر ودليل قاطع على وجود الإله الحكيم القادر القديم، كما قال تعالى: {وَإِن مّن شيء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]..اللطيفة الثانية: لم لم يقل الله: الحمد لله خالق العالمين: أنه تعالى لم يقل الحمد لله خالق العالمين، بل قال: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} والسبب فيه أن الناس أطبقوا على أن الحوادث مفتقرة إلى الموجد والمحدث حال حدوثها، لكنهم اختلفوا في أنها حال بقائها هل تبقى محتاجة إلى المبقي أم لا؟ فقال قوم: الشيء حال بقائه يستغني عن السبب، والمربي هو القائم بإبقاء الشيء وإصلاح حاله حال بقائه، فقوله: {رَبّ العالمين}.تنبيه: افتقار جميع العالمين مفتقرة إلى الله في حال بقائها:على أن جميع العالمين مفتقرة إليه في حال بقائها، والمقصود أن افتقارها إلى الموجد في حال حدوثها أمر متفق عليه، أما افتقارها إلى المبقي والمربي حال بقائها هو الذي وقع فيه الخلاف فخصه سبحانه بالذكر تنبيهًا على أن كل ما سوى الله فإنه لا يستغنى عنه لا في حال حدوثه ولا في حال بقائه..اللطيفة الثالثة: تسمية الفاتحة بأم القرآن: أن هذه السورة مسماة بأم القرآن فوجب كونها كالأصل والمعدن، وأن يكون غيرها كالجداول المتشعبة منه، فقوله: {رَبّ العالمين}.تنبيه: افتتاحيات الحمد:على أن كل موجود سواه فإنه دليل على إلهيته.ثم إنه تعالى افتتح سورًا أربعة بعد هذه السورة بقوله: {الحمد للَّهِ} فأولها: سورة الأنعام وهو قوله: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السموات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] واعلم أن المذكور هاهنا قسم من أقسام قوله: {رَبّ العالمين} لأن لفظ العالم يتناول كل ما سوى الله، والسموات والأرض والنور والظلمة قسم من أقسام ما سوى الله، فالمذكور في أول سورة الأنعام كأنه قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة، وأيضًا فالمذكور في أول سورة الأنعام أنه خلق السموات والأرض؛ والمذكور في أول سورة الفاتحة كونه ربًا للعالمين، وقد بينا أنه متى ثبت أن العالم محتاج حال بقائه إلى إبقاء الله كان القول باحتياجه حال حدوثه إلى المحدث أولى، أما لا يلزم من احتياجه إلى المحدث حال حدوثه احتياجه إلى المبقي حال بقائه، فثبت بهذين الوجهين أن المذكور في أول سورة الأنعام يجري مجرى قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة.وثانيها: سورة الكهف، وهو قوله: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} [الكهف: 1] والمقصود منه تربية الأرواح بالمعارف، فإن الكتاب الذي أنزله على عبده سبب لحصول المكاشفات والمشاهدات، فكان هذا إشارة إلى التربية الروحانية فقط، وقوله في أول سورة الفاتحة: {رَبّ العالمين} إشارة إلى التربية العامة في حق كل العالمين، ويدخل فيه التربية الروحانية للملائكة والإنس والجن والشياطين والتربية الجسمانية الحاصلة في السموات والأرضين، فكان المذكور في أول سورة الكهف نوعًا من أنواع ما ذكره في أول الفاتحة.وثالثها: سورة سبأ، وهو قوله: {الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} [سبأ: 1] فبين في أول سورة الأنعام أن السموات والأرض له، وبين في أول سورة سبأ أن الأشياء الحاصلة في السموات والأرض له، وهذا أيضًا قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين}.ورابعها: قوله: {الحمد للَّهِ فَاطِرِ السموات والأرض} [فاطر: 1] والمذكور في أول سورة الأنعام كونه خالقًا لها، والخلق هو التقدير، والمذكور في هذه السورة كونة فاطرًا لها ومحدثًا لذواتها، وهذا غير الأول إلا أنه أيضًا قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين}.ثم إنه تعالى لما ذكر في سورة الأنعام كونه خالقًا للسموات والأرض ذكر كونه جاعلًا للظلمات والنور، أما في سورة الملائكة فلما ذكر كونه فاطر السموات والأرض ذكر كونه جاعلًا الملائكة رسلًا، ففي سورة الأنعام ذكر بعد تخليق السموات والأرض جعل الأنوار والظلمات وذكر في سورة الملائكة بعد كونه فاطر السموات والأرض جعل الروحانيات، وهذه أسرار عجيبة ولطائف عالية إلا أنها بأسرها تجري مجرى الأنواع الداخلة تحت البحر الأعظم المذكور في قوله: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} فهذا هو التنبيه على أن قوله: {رَبّ العالمين} يجري مجرى ذكر الدليل على وجود الإله القديم..المسألة الثانية: من صفات الربوبية: أن هذه الكلمة كما دلت على وجود الإله فهي أيضًا مشتملة على الدلالة على كونه متعاليًا في ذاته عن المكان والحيز والجهة، لأنا بينا أن لفظ العالمين يتناول كل موجود سوى الله ومن جملة ما سوى الله المكان والزمان، فالمكان عبارة عن الفضاء والحيز والفراغ الممتد، والزمان عبارة عن المدة التي يحصل بسببها القبلية والبعدية، فقوله: {رَبّ العالمين} يدل على كونه ربًا للمكان والزمان وخالقًا لهما وموجدًا لهما، ثم من المعلوم أن الخالق لابد وأن يكون سابقًا وجوده على وجود المخلوق، ومتى كان الأمر كذلك كانت ذاته موجودة قبل حصول الفضاء والفراغ والحيز، متعالية عن الجهة والحيز، فلو حصلت ذاته بعد حصول الفضاء في جزء من أجزاء الفضاء لانقلبت حقيقة ذاته، وذلك محال، فقوله: {رَبّ العالمين} يدل على تنزيه ذاته عن المكان والجهة بهذا الاعتبار..المسألة الثالثة: ذات الله منزهة عن الحلول: هذه اللفظة تدل على أن ذاته منزهة عن الحلول في المحل كما تقول النصارى والحلولية؛ لأنه لما كان ربًا للعالمين كان خالقًا لكل ما سواه، والخالق سابق على المخلوق، فكانت ذاته موجودة قبل كل محل، فكانت ذاته غنية عن كل محل، فبعد وجود المحل امتنع احتياجه إلى المحل..المسألة الرابعة: إله العالم ليس موجبًا بالذات بل هو فاعل مختار: هذه الآية تدل على أن إله العالم ليس موجبًا بالذات، بل هو فاعل مختار والدليل على أن الموجب بالذات لا يستحق على شيء من أفعاله الحمد والثناء والتعظيم، ألا ترى أن الإنسان إذا انتفع بسخونة النار أو ببرودة الجمد فإنه لا يحمد النار ولا الجمد لما أن تأثير النار في التسخين وتأثير الجمد في التبريد ليس بالقدرة والاختيار بل بالطبع، فلما حكم بكونه مستحقًا للحمد والثناء ثبت أنه فاعل بالاختيار، وإنما عرفنا كونه فاعلًا مختارًا؛ لأنه لو كان موجبًا لدامت الآثار والمعلولات بدوام المؤثر الموجب، ولامتنع وقوع التغير فيها، وحيث شاهدنا حصول التغيرات علمنا أن المؤثر فيها قادر بالاختيار لا موجب بالذات، ولما كان الأمر كذلك لا جرم ثبت كونه مستحقًا للحمد..المسألة الخامسة: إحكام العالم وإتقانه: لما خلق الله العالم مطابقًا لمصالح العباد موافقًا لمنافعهم كان الإحكام والإتقان ظاهرين في العالم الأعلى والعالم الأسفل، وفاعل الفعل المحكم المتقن يجب أن يكون عالمًا فثبت بما ذكرنا أن قوله: {الحمد للَّهِ} يدل على وجود الإله ويدل على كونه منزهًا عن الحيز والمكان، ويدل على كونه منزهًا عن الحلول في المحل، ويدل على كونه في نهاية القدرة ويدل على كونه في نهاية العلم ويدل على كونه في نهاية الحكمة.وأما السؤال الثاني وهو قوله: هب أنه ثبت القول بوجود الإله القادر فلم قلتم إنه يستحق الحمد والثناء؟ والجواب هو قوله: {الرحمن الرحيم مالك يَوْمِ الدين} وتقرير هذا الجواب أن العبد لا يخلو حاله في الدنيا عن أمرين: إما أن يكون في السلامة والسعادة، وإما أن يكون في الألم والفقر والمكاره، فإن كان في السلامة والكرامة فأسباب تلك السلامة وتلك الكرامة لم تحصل إلا بخلق الله وتكوينه وإيجاده، فكان رحمانًا رحيمًا، وإن كان في المكاره والآفات، فتلك المكاره والآفات إما أن تكون من العباد، أو من الله، فإن كانت من العباد فالله سبحانه وتعالى وعد بأنه ينتصف للمظلومين من الظالمين في يوم الدين، وإن كانت من الله فالله تعالى وعد بالثواب الجزيل والفضل الكثير على كل ما أنزله بعباده في الدنيا من المكروهات والمخافات، وإذا كان الأمر كذلك ثبت أنه لابد وأن يكون مستحقًا للحمد الذي لا نهاية له، والثناء الذي لا غاية له فظهر بالبيان الذي ذكرناه أن قوله: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين الرحمن الرحيم مالك يَوْمِ الدين} مرتب ترتيبًا لا يمكن في العقل وجود كلام أكمل وأفضل منه.واعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في الصفات المعتبرة في الربوبية أردفه بالكلام المعتبر في العبودية، واعلم أن الإنسان مركب من جسد، ومن روح، والمقصود من الجسد أن يكون آلة للروح في اكتساب الأشياء النافعة للروح فلا جرم كان أفضل أحوال الجسد أن يكون آتيًا بأعمال تعين الروح على اكتساب السعادات الروحانية الباقية، وتلك الأعمال هي أن يكون الجسد آتيًا بأعمال تدل على تعظيم المعبود وخدمته، وتلك الأعمال هي العبادة، فأحسن أحوال العبد في هذه الدنيا أن يكون مواظبًا على العبادات، وهذه أول درجات سعادة الإنسان، وهو المراد بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فإذا واظب على هذه الدرجة مدة فعند هذا يظهر له شيء من أنوار عالم الغيب، وهو أنه وحده لا يستقل بالإتيان بهذه العبادات والطاعات بل ما لم يحصل له توفيق الله تعالى وإعانته وعصمته فإنه لا يمكنه الإتيان بشيء من العبادات والطاعات، وهذا المقام هو الدرجة الوسطى في الكمالات، وهو المراد من قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ثم إذا تجاوز عن هذا المقام لاح له أن الهداية لا تحصل إلا من الله، وأنوار المكاشفات والتجلي لا تحصل إلا بهداية الله وهو المراد من قوله: {اهدنا الصراط المستقيم}.وفيه لطائف:.اللطيفة الأولى: المنهج الحق في الاعتقادات وفي الأعمال هو الصراط المستقيم: أن المنهج الحق في الاعتقادات وفي الأعمال هو الصراط المستقيم، أما في الاعتقادات فبيانه من وجوه: الأول: أن من توغل في التنزيه وقع في التعطيل ونفي الصفات، ومن توغل في الإثبات وقع في التشبيه وإثبات الجسمية والمكان، فهما طرفان معوجان، والصراط المستقيم الإقرار الخالي عن التشبيه والتعطيل، والثاني: أن من قال فعل العبد كله منه فقد وقع في القدر، ومن قال لا فعل للعبد فقد وقع في الجبر وهما طرفان معوجان، والصراط المستقيم إثبات الفعل للعبد مع الإقرار بأن الكل بقضاء الله، وأما في الأعمال فنقول: من بالغ في الأعمال الشهوانية وقع في الفجور، ومن بالغ في تركها وقع في الجمود، والصراط المستقيم هو الوسط، وهو العفة، وأيضًا من بالغ في الأعمال الغضبية وقع في التهور، ومن بالغ في تركها وقع في الجبن، والصراط المستقيم هو الوسط، وهو الشجاعة.
|